بسم الله الرحمن الرحيم
تنوع التصرفات النبوية
لقد نُظر كثيرا إلى التصرفات النبوية على أنها من نوع واحد وعلى وزن واحد، وعلى أنها كلها وحي يُتبع. وقد بين كثير من العلماء والأصوليين خطأ هذه النظرة ومجافاتها لطبيعة التصرفات النبوية. وقام كثير منهم باقتراح تقسيمات لها، مثل أبي محمد ابن قتيبة الدينوري (ت 276 هـ) في كتابه "تأويل مختلف الحديث" ، والقاضي عياض اليحصبي (ت 544 هـ) في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" ، وابن قيم الجوزية (751هـ) في العديد من مؤلفاته، والعالم الهندي شاه ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) في كتابه "حجة الله البالغة".
--------------------------------------------------------------------------------
التصرفات النبوية تنقسم على العموم إلى: تصرفات تشريعية وتصرفات غير تشريعية
--------------------------------------------------------------------------------
وممن أسهم في الموضوع من المعاصرين الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب "مقاصد الشريعة الإسلامية". لكن أكثرهم توسعا في بيان الفرق بين أنواع التصرفات النبوية، الأصولي الألمعي شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ). وقد بث ذلك في العديد من كتبه مثل موسوعته الفقهية "الذخيرة" ، وكتابه المشهور بالفروق ، ثم في كتاب خاص بالموضوع هو "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام".
وبالاستفادة من مجموع تلك الجهود المتراكمة يمكن أن نقسم التصرفات النبوية -على العموم- إلى قسمين هما:
1 ـ تصرفات تشريعية، وهي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو للاتباع والاقتداء. وهذه التصرفات التشريعية تنقسم بدورها إلى قسمين:
ـ تصرفات بالتشريع العام، وهي تتوجه إلى الأمة كافة إلى يوم القيامة. وهي إما تصرفات بالتبليغ أو تصرفات بالفتيا.
ـ تصرفات بالتشريع الخاص، وهي مرتبطة بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليست عامة للأمة كلها. ويدخل ضمنها التصرفات بالقضاء، والتصرفات بالإمامة، والتصرفات الخاصة. وهي ملزمة لمن توجهت إليهم فقط، وليس لغيرهم. ويسميها بعض العلماء بالتصرفات الجزئية أو التشريعات الجزئية أو الخطاب الجزئي.
2 ـ تصرفات غير تشريعية، وهي تصرفات لا يقصد بها الاقتداء والاتباع، لا من عموم الأمة ولا من خصوص من توجهت إليهم. وقد أحصينا منها: التصرفات الجِبِلِّية والتصرفات العادية والتصرفات الدنيوية والتصرفات الإرشادية والتصرفات الخاصة به صلى الله عليه وسلم.
ولهذا التقسيم فوائد عديدة في فقه الدين وفي التعامل مع الأحاديث النبوية. فلقد أصاب هذا التعامل البعض بنوع من عمى الألوان. فلم يفهموا أقواله وأفعاله إلا على طريقة واحدة، ولم ينظروا إليها إلا على أنها من لون واحد. وانغلقت داخل ألفاظ النصوص ومبانيها اللغوية، ولم تلتفت إلى الملابسات والقرائن المحيطة، ولم تعتبر كون كثير من تلك التصرفات النبوية تستجد بحسب النوازل والظروف، أو ترتبط بأسباب وأحوال خاصة. كما أنها لا تهتم بمقاصد التصرفات النبوية وأهدافها التشريعية والتربوية والدعوية... وعندما يغيب كل هذا، تصبح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبادئ وأحكاما مجردة، لا علاقة لها بواقع يتحرك، ولا ببشر يتدافع، ولا بطوارئ تستجد. إن الأمر يصبح كأنه تشريع يبنى في عالم مجرد لا علاقة له بتغيرات واقع اجتماعي وسياسي معين، بل ولا علاقة له حتى بطبيعة البشر.
لكل هذا اعتبر شهاب الدين القرافي قاعدة الفرق بين التصرفات النبوية من الأصول الشرعية الجديرة بالمعرفة والاهتمام. فبعد أن سرد أنواع تصرفاته صلى الله عليه وسلم، والفرق بينها قال: "وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم، فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية" .
كما أن ابن قيم الجوزية صاغ في الموضوع قاعدته المهمة: "لا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كليا عاما، ولا الكلي العام جزئيا خاصا، فيقع من الخطأ وخلاف الصواب ما يقع" .