بسم الله الرحمن الرحيم
انقسام بين مبالغ ومتخلف
علوم الدين والدنيا.. تلازم أم انقطاع؟
احمد عائل فقيهي(جدة) عثمان النعماني(القاهرة)
عرف الدكتور حسن حنفي كأحد أبرز المفكرين العرب الذين يثيرون الكثير من الحوار والنقاش حول الكثير من القضايا، وقد برز ذلك في كتبه وفي حواراته ومقالاته، وهو من الذين يولون اهمية كبيرة وبالغة للعقل في مقابل النقل في اطار ما يسمى بتجديد الخطاب الديني.
حسن حنفي استاذ الفلسفة بجامعة القاهرة قال ان العرب والمسلمين بالغوا في احياء علوم الدين على حساب علوم الدنيا، وهذه المبالغة بالتالي اخرجتهم من الدخول في العصر، ومنافسة الدول الاكثر تأثيرا في العالم. غير ان الكثيرين ممن يطالبون بالحد من التعليم الديني غاب عنهم ان الاسلام دين وحياة منهج وسلوك شريعة ومعاملات وحضارة دنيوية خيرية وطريق للفوز بالنعيم البرزخي والاخروي، ثم ان الاسلام حدد معالم واضحة لمن ينتسبون اليه كي لا يضلوا ولا يبتعدوا عن منهج الله وحذرهم من اتباع خطوات الشيطان سواء شيطان الجن او شيطان الانس.
ومهما نال الاسلام من هجوم عليه فسيبقى دين الفطرة الى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها بسبب ما يحمله من فرائض وسنن تحمل الخير كل الخير لأبنائه من صلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها.
واذا كان تحقيق النهضة الحضارية يتطلب الاهتمام بالعلوم فهذا لا يعني اغفال علوم الدين التي هي أساسية لترسيخ القيم الأخلاقية في الانسان.
الأخلاق
ووفقا للشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالازهر الشريف فان الاسلام كله منهج للأخلاق في كافة الصلات والروابط فالأخلاق هي الدين، لأنها ليست زائدة عنه أو خارجه عليه ولهذا قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئلت عن ذلك:«كان خلقه القرآن» أي انه صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي على الارض، وهو ما يجب ان يفطن اليه المسلمون في يومنا هذا فالأخلاق ذات ضوابط تبني بها الأمم دون تواكل أو قنوط والأمم التي ليست لها أخلاق فانها عرضة الى الاندثار والزوال والموت وعدم الذكر، وهو ما تحقق مع أمم كثيرة في حقب مختلفة في التاريخ لم تلتزم بالمنهج الأخلاقي الديني، ومن ثم سقطت بلا رجعة.
ويشير الى ان وجود الدين كفل لأمة المسلمين البقاء حتى قيام الساعة بفضل المنهج الأخلاقي القويم الذي أتى به المصطفى صلى الله عليه وسلم من لدن رب العزة جل ثناؤه ليقيم به مجتمعا مثاليا وعلى المسلمين اعطاء الأولوية للأخلاق التي جاء بها الاسلام وليست التي تأتي بها العولمة الغربية التي تهدف الى قطع أي صلة لنا بديننا الحنيف وذلك في محاولة لاضعافنا تمهيدا للسيطرة علينا.
خطط
ويرى صقر أن خروج الأمة الاسلامية من مأزقها التنموي الذي تعاني منه مرهون بالتعاون بين ابنائها وسعيهم الدؤوب لوضع الأمة الاسلامية في مقدمة الأمم المتقدمة وهذا يتطلب وضع خطط تنسيقية تراعي فيها مصالح كل دولة اسلامية بعيدا عن نزعة الأنانية التي تجتاح البعض لأن الأمة الاسلامية كل متكامل، ووضع مصلحة المسلمين فوق أي اعتبار آخر دليل على قوة ايمان المرء.
فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله }انما المؤمنون إخوة| ويقول سبحانه }وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان| صدق الله العظيم ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم }لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه| ويقول عليه الصلاة والسلام (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
ودعا رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف الأسبق الى ضرورة أن نتجاوب مع المستجدات العصرية النافعة وأن نتعايش معها مع رفض ما يتعارض مع طبيعة ديننا الحنيف مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم
الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو الأحق بها) ولقول الله عز وجل}فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور| أي أن المسلمين مطالبون بالسعي والتحصيل والربط بين الأسباب والمسببات وأن يرصدوا ظواهر مجتمعهم ايجابا وسلبا لكي يكونوا فاعلين بحق في العالم الذي يتواجدون فيه ولا يكونوا عالة على الناس كما يشير حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم(لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت).
التغيرات
ويشير صقر الى ضرورة استقراء علماء المسلمين المجتهدين والفقهاء الاعلام للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تطرأ على مجتمعاتهم نظرا للتطور المستمر في الحياة، ومن هنا وجدنا الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط حد الردة في عام الرمادة، نظرا للمجاعة التي شهدها ذلك العصر، كما وجدناه ايضا أسقط سهم المؤلفة قلوبهم من الغنائم والفيء الميلاد:
تراجعت علوم الدنيا وتفوقت علوم الدين مع الغزالي
علم الحال يشمل علوم الدين والدنيا
صقر:
على المسلمين اعطاء الأولوية للأخلاق التي جاء بها الاسلام لا العولمة الغربية
ضرورة استقراء العلماء للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الطارئة على مجتمعاتهم
د. أبو كريشة:
غلبة النقل على الخطاب الديني الاصلاحي ليس نقصا فيه
المهم تناسي الأمة خلافاتها والاتحاد تحت راية القرآن
عبدالمتعال:
كسر قيود التخلف باحياء المعرفة والعلم
منهجية بناء صرح الأمة العلمي لابد ان تنتمي للسياق الحضاري عندما ينتصر المسلمون بعد ان أعز الله دينه وأعلى راية الاسلام وبالتالي يتضح ان ما فعله عمر بن الخطاب هو صورة حية وواقعية وصحيحة لأهمية معايشة الواقع والبيئة والعصر بروح تفهم متطلبات هذا العصر وتعرف ما فيه من تطورات وتغيرات قد تفرض على المسلم والفقيه أن يطور ادواته التأصيلية للتعامل معها خاصة مع المستحدثات والمستجدات العلمية التي تبهر الأنظار والعقول باستمرار.
المعاملات
اما الدكتور طه أبو كريشة نائب رئيس جامعة الأزهر السابق فرأى انه اذا كانت هناك حاجة لتطوير الخطاب الديني الاسلامي فالسبيل الى ذلك هو التركيز على الأحداث التي تمر بها الأمة الاسلامية والاهتمام بالمعاملات بجانب العبادات وان يستمد الخطاب رؤاه ومرتكزاته أولا من القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأتي بعد ذلك الأدلة العقلية التي تظل في النهاية قاصرة في حدود معينة بحدود العقل البشري لأن كتاب الله عز وجل كما يقول سبحانه }لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه|. وبالتالي فغلبة النقل على الخطاب الديني الاصلاحي ليس نقصا فيه بقدر ما هو اعطاء مصداقية ونوع من اليقين له.
ويؤكد انه من المهم تناسي الأمة الاسلامية بكافة تياراتها وفصائلها خلافاتها والاتحاد تحت راية انقاذ الأمة الاسلامية من براثن المخططات التي يضعها اعداؤها لها واعلاء كلمة الحق مصداقا لقول الله عز وجل}واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا|، ولذا يجب على أبناء الأمة الاسلامية نسيان الخلافات فيما بينها خاصة ان الاسلام لا يقر الشقاق والعداء بين أبنائه.
إحياء المعرفة
من وجهة نظر المفكر والباحث الاسلامي صلاح عبدالمتعال فان الأمة اذا أرادت كسر قيود التخلف فلا مفر من حركة احياء للمعرفة والعلم ولن يحدث ذلك الا باستنفار لمشروع نهضة علمية أو ثورة معرفية تبدأ بالقضاء على الأمية والارتقاء بمستوى التعليم ونظم حفظ المعلومات وتوظيف المعرفة وتسخير التقنيات الصناعية والزراعية والتربوية ولن يتحقق ذلك الا بارساء قواعد البحث العلمي وتنشيط حركته في المجالات الطبيعية والانسانية على قدر سواء.
ورأى انه اذا كان للعلم ضوابطه وقواعده المنهجية فان هذه الضوابط -في نفس الوقت- يحيط بها وتحرسها المعايير الأخلاقية كما ان منهجية بناء الصرح العلمي للأمة العربية الاسلامية لابد ان تنتمي بالضرورة للسياق الحضاري الاسلامي الذي أثمر في عهود الاسلام الاولى تراثا علميا رصينا استرشد به العلم في وضعه الحديث وان المنهجية الاسلامية بمعاييرها الأخلاقية التي تنبثق من أصول الاسلام ومبادئه وايضا من خبرات علماء المسلمين الأوائل لها نشأتها وتطورها وتجاربها في خضم المعارف الطبيعية والعلوم الدينية، فاذا كانت المدنية الغربية الحديثة قد استنارت بمعالم المنهجية الاسلامية فمن باب أولى يجب ان نستنير نحن بها نحو طريق المعرفة.
الاستقراء
وقال اننا اذا اتفقنا على ان مناهج الفكر ونوعيات النّظم والمذاهب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا يمكن ان تنعزل عن الاطار الحضاري للمجتمع وتاريخه -كما نشاهد في عالمنا اليوم- فان منهجية البحث ينبغي ان تلائم الأوضاع المادية والحالة العقائدية الايمانية في مجتمعها، فتربط منذ نشأتها وتطورها بين الايمان بالله عز وجل والمعرفة والعلم في أساسها المنقى والاستقرائي، وتحيط هذه المنهجية بمناهج الاستدلال العلمي من ناحــية، ومنهج الاستدلال على اثبات وجود الله سبحانه وتعالى وحكـمته من ناحية اخرى، حيث يقول تعالى في محكم تنزيله }سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق|.
تلازم ام انقطاع
من جهته تحدث زكي الميلاد باحث وكاتب قائلا: في حديث بليغ للامام جعفر بن محمد الصادق يشرح فيه تقسيم العلم الى قسمين: قسم لصلاح الدين، وقسم لصلاح الدنيا، حين تحدث عن أن الله سبحانه وتعالى، اعطى الانسان علم جميع ما فيه صلاح دينه ودنياه ومنع منه ما سوى ذلك، وفي هذا الحديث يقول الامام جعفر بن محمد مخاطبا الفضل بن عمر(فكر يا فضل، فيما أعطي الانسان علمه وما منع منه، فانه اعطي علم جميع ما فيه صلاح دينه ودنياه، فما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق، ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة، وبر الوالدين، وأداء الامانة، ومواساة أهل الخلة، وأشباه ذلك مما قد توجد معرفته والاقرار والاعتراف به في الطبع والفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة. وكذلك اعطي علم ما فيه صلاح دنياه، كالزراعة والغراس واستخراج الأرضين، واقتناء الاغنام والانعام واستنباط انواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان، والتصرف في الصناعات، ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده، مما فيه صلاح أمره في هذه الدار، فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه، ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته ان يعلم، كعلم الغيب وما هو كائن وبعض ما قد كان.. فانظر كيف اعطي الانسان علم جميع ما يحتاج اليه لدينه ودنياه، وحجب عنه ما سوى ذلك، ليعرف قدره ونقصه، وكلا الأمرين فيهما صلاحه..).
الغزالي
وفي أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجري، حاول الشيخ ابو حامد الغزالي احياء علوم الدين، في كتابه الذي اشتهر به كثيرا، وحمل هذا العنوان، وانتصر فيه الى ما اسماه بعلم طريق الآخرة، بعد أن وجد أزمة أصابت علوم الدين، وأصابت علماء الدين في عصره، وقد شرح هذه الازمة بطريقة تكشف عن شدة وقعها في نفسه، وحجم خطورتها في زمنه، حيث يقول
فأدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان، ولم يبق الا المترسمون وقد استحوذ على اكثرهم الشيطان، واستغواهم الطغيان، واصبح كل واحد بعاجل حظة مشغوفا فصار يرى المعروف منكرا، والمنكر معروفا، حتى ظل علم الدين مندرسا، ومنار الهدى في اقطار الارض منطمسا، ولقد خيلوا الى الخلق ان لا علم الا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، او جدل يتدرع به طالب المباهاة الى الغلبة والافحام، او سجع مزخرف يتوصل به الواعظ الى استدراج العوام، اذ لم يروا ماسوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام، فأما علم طريق الآخرة، وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا فقد اصبح بين الخلق مطويا وصار نسيا منسيا، ولما كان هذا ثلما في الدين ملما وخطبا مدلهما، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهما، احياء لعلوم الدين. فمع الغزالي تفوقت علوم الدين، وتراجعت علوم الدنيا.
الطوسي
وفي القرن السابع الهجري توقف نصير الدين الطوسي عند الحديث النبوي المشهور (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) في بحثه عن ماهية العلم وما هو المراد من العلم الذي طلبه فريضة، فاجاب على ذلك بقول بديع في كتابه
اداب المتعلمين)، حيث قال
المراد هنا علم الحال، اي المحتاج اليه في الحال الموصول الى النفع في المآل، كما يقول افضل العلم علم الحال، وافضل العمل حفظ المآل).
ويضيف: وعلم الحال يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا، وقد يكون في زمن من علوم الدين وفي زمن اخر قد يكون من علوم الدنيا. ويتصف هذا الرأي بالحداثة لكونه مفتوحا على كل الأزمنة، بما في ذلك زمننا وعصرنا الراهن؟ وما بعده ايضا.
علم الحال
فما هو علم الحال بالنسبة الى عصرنا نحن؟ هل هو في علوم الدين أم في علوم الدنيا؟ هناك من يرى ان علوم الدين اخذت مكانتها بما يكفي وحان الوقت للعناية والاهتمام بعلوم الدنيا، او بصيغة اخرى ان مشكلتنا او نقصنا ليس في علوم الدين، وانما في علوم الدنيا، ويذهب الى هذا الرأي الدكتور حسن حنفي الذي دعا الى الانتقال من علوم الدين الى علوم الدنيا في سياق نهجه ودعوته الى انسنة الفكر الاسلامي، وفي هذا النطاق جاءت دعوته الى التحول من العقيدة الى الثورة وتأسيس ما أسماه علم الانسان، والتحول من النص الى الواقع في نطاق علم اصول الفقه، والتحول من الفناء الى البقاء في نطاق علم التصوف، والتحول من النقل الى العقل في نطاق اعادة بناء العلوم النقلية.
والذي أراه انه من دون التقدم في علوم الدنيا لا يمكن أن ننجز عمرانا وتمدنا وتقدما، ومن جهة اخرى لا يمكن الفصل بين علوم الدين وعلوم الدنيا فعلوم الدين هي علوم للدنيا وعلوم الدنيا هي علوم للدين، والتقدم في علوم الدين يفترض ان يحدث تقدما في مجال علوم الدنيا. وهذا ما حاول الدفاع عنه الشيخ محمد عبده في كتابه
الاسلام دين العلم والمدنية) حين اعتبر ان المسلمين(لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم، ولما اصيبوا بمرض جهل بدينهم انهزموا من الوجود، وان المسلمين في نظره ما عادوا العلم ولا العلم عاداهم، الا من يوم انحرافهم عن دينهم، واخذهم في الصد عن علمه، فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا، وحرموا ثمار العقل، وكانوا كلما توسعوا في العلوم الدينية، توسعوا في العلوم الكونية).
وهذا التلازم بين علوم الدين وعلوم الدنيا هو ما ينبغي البحث عنه، والتمسك به، لأن فيه صلاح ديننا ودنيانا.