الناس جميعاً في المنظور القرآني ينتسبون إلى أصل واحد، لا فضل لجنس على جنس ولا لشعب على شعب، ولا لأمة على أمة في أصل الخلقة والنشأة فالكل في أصل الإنسانية سواء، والتكريم الإلهي للإنسان يشمل بني آدم جميعاً، قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (2).
واختلاف الألسنة والألوان والأجناس والشعوب آية من آيات الخالق الدالة على إبداعه وقدرته قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ).(3)لذلك ينبغي أن يكون هذا الاختلاف مثار تعارف لا تناكر، وائتلاف لا اختلاف، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ).(4)ولا ريب أن الإخاء يزداد قوة وتوثيقاً إذا اجتمع مع العنصر الإنساني العنصر الإيماني لأن المؤمنين جميعاً أخوة: قال تعالى:(إنما المؤمنون أخوة)(5).
فإذا انتفى العنصر الإيماني فإن العنصر الإنساني يظل أساساً للإخاء بين جميع الناس، ولهذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي مرت به، فلما قيل له: إنها جنازة يهودي، قال: ( أليست نفساً ) (6).
ولأن مبدأ الإخاء الإنساني له أثر فعال في الوقاية من مظاهر عنف متعددة يمكن أن يمارسها غير المسلمين ضد المسلمين وبالعكس رأينا القرآن الكريم يرسخ هذا المبدأ من خلال ثلاثة أسس.
الأساس الأول: اعتبار السلام أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
الأساس الثاني: إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم.
الأساس الثالث: محاربة الدوافع الدنيئة المثيرة للنزاعات والحروب بين المسلمين وغيرهم.
وتفصيل هذه الأسس على النحو التالي:
الأساس الأول: اعتبار السلام أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
يعتبر القرآن الكريم السلام أساساً للعلاقة بين المسلمين وغيرهم بدليل قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)(7).
وقوله تعالى: )فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً )
وقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا غليهم إن الله يحب المقسطين ).(9)
وآيات القتال في القرآن الكريم تضمنت ذكر السبب في تشريعه، وهو يرجع إلى أمرين:
أحدها: دفع العدوان.
والثاني: قطع الفتنة وحماية الدعة.
قال تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) ).(10)
لذلك رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدة سلام بينه وبين اليهود بعد قدومه إلى المدينة، كما عقد مع مشركي قريش معاهدة الحديبية بعد أن قال: ( والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )(11) وفي رواية ابن إسحاق: ( يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتم إياها) .(12)
وقوله البعض إن الحرب هي أساس العلاقة بين المسلمين وغيره، وسبب تشريع القتال إنما هو القضاء على الكفر بدليل قوله تعالى:(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ).(13) وقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).(14)وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) (15).
إن قال قائل هذا فإننا نرد عليه بما يأتي:
أولاً:النصوص التي يستدل بها على قوله مطلقة، فتحمل على النصوص التي تفيد القتال بدرء العدوان أو قطع الفتنة والصدق للدعوة، لأن القواعد الأصولية تقضي بأنه إذا اتحد الموضوع فإن المطلق يحمل على المقيد(16).
ثانياً:لو كان الباعث على القتال في الإسلام هو القضاء على الكفر، لكان الإكراه في الدين جائزاً، لكن نصوص القرآن الكريم صرحت بنفيه ومنعه.
ثالثاً:لو كان الكفر هو الموجب للقتال لما جعل الله عز وجل إعطاء الكافرين للجزية غاية لقتالهم، وذلك في قوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ).(17)
رابعاً: لو كان الكفر هو الموجب للقتال لما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل غير المقاتلين من أطفال ونساء وشيوخ الكافرين.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ) .(18)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ( ولا تقتلوا وليداً ) .(19)
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والذمي ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقول أو بفعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم ما لا للمسلمين والأول هو الصواب، لأن القتال هو لمن يقاتلنا ) .(20)
خامساً: لو كان الكفر هو الموجب للقتل لما خير الله عز وجل المسلمين في أسرى المشركين بين المن عليهم بإطلاق سراحهم مجاناً أو أخذ الفداء منهم، قال تعالى:
(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء).(21)
وقول البعض: إن هذه الآية منسوخة مرجوح بما قرره أكثر العلماء من أنها محكمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم فعلوا ذلك.(22)
سادساً: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت إما لنقض العهد كما في غزوات بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وإما لرد العدوان كما في أحد والخندق، أو لشن حرب وقائية كما في غزوة بني المصطلق وغزوة خبر.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم أن كل من هادنه من الكفار لم يقاتله ).(23)
سابعاً: الأدلة التي استدل بها من يقول إن الحرب هي أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وسبب تشريع القتال إنما هو القضاء على الكفر بمعزل من الدلالة على ما قاله.
فالفتنة في قوله تعالى: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (يقصد بها الإيذاء والاضطهاد للصد عن الدين، ومعنى: )ويكون الدين كله لله (أي: يكون دين كل شخص خالصاً لله لا أثر لخشية عيره فيه، فلا يفتن لصده عنه، ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى الرهان والمداراة، أو الاستخفاء والمحاباة.(24)
وقوله تعالى: ) فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (.
يفيد: أن الباعث على القتال هو القضاء على الكفر إذا قطعناه من السياق الذي ورد فيه، أما إذا تابعنا قراءة الآيات التي بعده فسيتضح لنا أنه لا يدل على ذلك، بل يدل على أن درء العدوان هو الباعث على القتال.
أما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيحتاج الناظر فيه إلى التفريق بين كلمة ( أقاتل ) وكلمة ( أقتل ) حيث إن بينهما فرقاً كبيراً لا يخفى عل العربي المتأمل.
وبيان ذلك: أن كلمة ( أقاتل ) تدل على المشاركة، فهي لا تصدق إلا عن مفاعلة من طرفين، وتصدق أكثر في التعبير عن مقاومة لبادىء الاعتداء.
وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ( إنا لم نجيء لقتال أحد،ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا حجموا ) .(25)
وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي.(26)
وهذا القول صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يدعو المشركين إلى السلم، وهو نص قاطع في الدلالة على أنه سيقابل عدوانهم بالمثل إن هم أبوا إلا العدوان، وهذا المعنى هو ذاته المقصود بقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
يتبين بذلك كله: أن السلام هو أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، لكنه ليس أي سلام، إنه السلام القائم على العدل، السلام الذي يحمي حرية العقيدة، وتصان فيه الكرامة، وتحفظ به الحقوق، وتتاح فيه حرية الدعوة إلى الإسلام، ولا شك أن مثل هذا السلام يسهم إسهاماً فعالاً في ترسيخ مبدأ الإخاء الإنساني الذي يؤدي إلى حماية المجتمع الإنساني من مظاهر عنف متعددة.