بسم الله الرحمن الرحيم
الشباب وتقليد العالم الغربي
الشيخ محمد تقي فلسفي(
فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) .
[القرآن الكريم]
ثروات الحياة : استمرت حياة المجتمعات البشرية عبر العصور بفضل ثروتين كبيرتين .
الاولى : الذخائر التي خلقت بقضاء وحكمة الله تبارك وتعالى في وجود الإنسان مثل : العقل ، والذكاء ، والغرائز ، والقوى الطبيعية الاخرى .
الثانية : ما اكتسبه الإنسان بفضل سعيه وجهده ، مثل : العلوم ، والفنون ، والمعلومات المكتسبة الاخرى .
ولكي تبقى هاتان الثروتان الثمينتان ، وتنتقل من الأسلاف إلى الأخلاف ، فقد تقرر بأمر الخالق ، عز وجل ، أن يقوم عاملان مهمان وقويان بنقل صفات ومميزات النسل السابق إلى النسل اللاحق ، هما :
الأول : الوراثات الطبيعية ، والثاني : التقاليد الاجتماعية .
وتقوم الوراثات الطبيعية بمهمة نقل الصفات الفطرية والتكوينية .
بينما تنقل التقاليد الاجتماعية المعلومات والتجارب والصفات المكتسبة .
( 2 ) الوراثة الطبيعية والمكتسبة : إن منشأ الوراثة هو الجينات (1) التي تكمن ، طبقاً لنظام دقيق في نواة الخلية ، وتنقل جميع الصفات والمميزات الطبيعية للآباء والاُمهات ، المشمولة بقانون الوراثة ، إلى الأبناء ، وينشأ الجنين في رحم الاُم وفق هذا القانون .
أما منشأ الصفات الإكتسابية فيعود إلى بيئة العائلة والمجتمع ، إذ إن الطفل بعد الولادة يتعلمها عن طريق التقليد والإقتباس ، عن وعي أو جهل ، ثم يتصف بهذه الصفات بالتدريج وخلال سنوات .
والحيوانات أيضاً وكالإنسان ، ترث صفات آبائها واُمهاتها وتعيش عليها وتنشأ ، مع اختلاف وهو أن الحيوانات تكون صفاتها طبيعية تنتقل إليها بالوراثة ولا تحتاج إلى تعليم تقليدي .
أما الإنسان فعليه أن يتعلم بالتقليد وبالمعلومات المكتسبة أكثر برامج الحياة وشروط استمرارها .
بعبارة اخرى إن البهائم والحيوانات المفترسة تعرف واجباتها طبقاً للوراثة الطبيعية الممتزجة بوجودها ، فهي تعرف ظروف حياتها وما تحتاج إليه لإشباع هذه الحاجة من طعام وسكن ، بالإضافة إلى طريقة التناسل وتربية صغارها وهذا يعني أنّ مساحة الهداية التكوينية كبيرة جداً بحيث تستجيب لجميع احتياجاتها في مختلف شؤون حياتها ، ولا تحتاج إلا للقليل من التعليم التقليدي .
والطيور أيضاً وعن طريق غرائزها تعرف جميع برامج وظروف حياتها ، والهداية التكوينية الإلهية قوية جداً فيها لدرجة أنها تعلم كيفية بناء أعشاشها والحفاظ على الفراخ ورعايتها وحمايتها من الأخطار دون الحاجة إلى تلقي
____________
(1) Genetics التركيب الوراثي : الخصائص الموروثة لكائن حي أو لمجموعة من الكائنات الحية ، أصل شيء أو تكونه . ( المترجم ) نقلاً عن ( المورد ) . ( 3 )تدريبات من الآباء والاُمهات وتقليدهم .
« إذا أخرجت فرخ طيرمن عشه ، وقمت بتربيته في بيئة اخرى ، فإنه ما أن ينمو ويكبر حتى يبدأ ببناء عش باُسلوب وطريقة والديه » (1) .
الانسان والميراث الاجتماعي : إن الإنسان ، بعكس الحيوان ، غرائزه محدودة ، والهداية التكوينية لديه لا تستجيب لكل جوانب حياته . ولهذا السبب ، ولكي يستمر في الحياة ، يحتاج إلى إرث إجتماعي ، وعليه أن يستفيد من مجموع تجارب ومعلومات الآخرين ويقلدهم حتى يستطيع بالمعلومات التي اكتسبها ، الاستمرار في الحياة .
ومن البديهي أنه كلما اتسع نطاق الحياة العلمية والصناعية ، واكتسب المجتمع حضارة أوسع فإن حاجة الإنسان للمعلومات العلمية والمبادئ التقليدية تزداد .
الجدير بالملاحظة أن الميراث الإجتماعي ، في الماضي ، كان يمكن الحصول عليه بسهولة ، لأن معلومات البشر ، في المسائل الحياتية المختلفة كانت بدائية وسطحية ، فالفتيات والفتيان كانوا يستطيعون أن يتعلموا أعمال الكبار في الأمور المختلفة بالمشاهدة عن قرب وتقليدها ، وهكذا يرثون تجارب الجيل السابق لهم .
لكن ليس من اليسير في عالم ارتقت فيه علوم الإنسان إلى مستويات عليا من تعلم واستيعاب بعض القضايا العلمية المعقدة ، وليس أمام الشباب إلا طريق التعليم العالي وقراءة الكتب العلمية وبذلك يمكنه أن يرث الجيل السابق ويحصل على معلوماته وتجاربه .
____________
(1) سر خلق الإنسان ، ص 84 . ( 4 ) ضرورة التربية والتعليم : « يقول جون ديوي : إن جميع ما يرثه البشر من المواريث لا يستفاد منه بصورة مباشرة من قبل الأفراد ، وبالتالي يجب أن يعلم قسم مهم وضروري منه إلى الأفراد بشكل من الأشكال ، وهنا نتبين أهمية وضروة التعليم والتربية الإلزاميين والدروس المكتوبة أو المقروءة ولا يمكن نقل الإرث الحضاري الثمين دون استخدام اللغة التي يعتبر الخط صورة عنها ، ولهذا السبب فإن التعليم والتربية ، في المجتمعات المتحضرة ، يرتبطان بالكتاب ، ومن لا يعرف الكتابة فإنه لا يستطيع أن يستفيد شيئاً من التربية والتعليم » (1) .
تقليد الماضين : إن غزيزة التقليد لدى الإنسان هي من المواهب الكبيرة والقيمة التي وهبها الله تبارك وتعالى ، وتعتبر من الأركان الأساسية في الحياة الإجتماعية . إن نشاط غريزة التقليد يبدأ منذ مرحلة الطفولة ، وهذا النشاط يستفيد منه الإنسان في مراحل الشباب والرجولة والشيخوخة ، فعن طريقها يرتبط الإنسان بالأجيال السابقة ويقتبس تجاربهم ومعلوماتهم ويعد نفسه لظروف الحياة وبذلك يعوض عن النقص في غرائزه .
إن غريزة التقليد تقوم بصورة إرادية أو لا إرادية بنقل التقاليد والأخلاق والسنن ، واللغة والآداب وبقية القيم الاجتماعية جيلاً عن جيل ، وتنقذ ميزات الشعوب والأقوام من خطر الفناء والزوال .
اقتباس المناهج السلبية : إن غريزة التقليد ، مثل بقية الغرائز ، خلقت بحكمة الله عز وجل في
____________
(1) مقدمة على فلسفة التربية والتعليم ص 44 . ( 5 )وجود الإنسان على أساس مصلحة وضرورة الحياة ، ولو استخدمت هذه الغرائز بصورة صحيحة بهدف الاستفادة من الأساليب الصحيحة للآخرين فإن ذلك يؤدي إلى رفاه وسعادة وكمال في حياة الإنسان ، وبعكس ذلك إذا سارت الغرائز بصورة غير صحيحة ، واقتبست الأساليب الشريرة في المجتمع فإن مآل ذلك التعاسة للإنسان .
وما أكثر الأشخاص الذين ورثوا الصفات الحميدة من الماضين نتيجة التربية العائلية الصحيحة ، ولكن رفاق السوء في سني الشباب والرجولة تركوا بصمات واضحة على سلوكهم اللاحق الذي تدرج من خلال التقليد والاقتباس حتى تبدل إرث التربية العائلية من مكارم الأخلاق إلى رذائل الأعمال .
وبالتالي سبب تقليد هذه الفئة الشقية في سنوات العمر اللاحقة تعاستهم وألحق أضراراً بسمعة وكرامة وشرف أسلافهم وأخيراً أوجد أرضية صالحة لانحراف الجيل التالي من أبنائهم .
قال علي عليه السلام : « من لم يؤكد قديمه بحديثه شان سلفه وخان خلفه » (1) .
العقل وغريزة التقليد : إن غريزة التقليد مثل بقية الغرائز عمياء لا تشعر ، ولا تفهم الخير من الشر ، ولا تهتم بالصالح أو الطالح ، وإنما تبغي إشباع مطالبها ، ولكي لا يتنشط غريزة التقليد وتخرج عن نطاق المصلحة ، وتدفع الإنسان إلى الاقتباس الأعمى المتسم بالضرر والأخطار وتمهد لسقوط وانحطاط الإنسان لابد من تسليم زمامها إلى قوة العقل والتفكير لتحديد فعاليتها بقوته .
منهاج الأنبياء : إن كل موضوع يراد تقليده يجب أولاً اخضاعه لدراسة العقل وتقييمه من كل الجوانب ، فإذا كان مفيداً تم تقليده ، وإذا كان مضراً رفض . إن هذا
____________
(1) غرر الحكم ص 799 . ( 6 )التقليد المعقول الصحيح بإمكانه أن يورثنا تجارب ومعلومات الآخرين من جهة ، ومن جهة اخرى يصوننا من الأقتباسات المضرة وأخطارها . وهذا الاسلوب هو الذي سار عليه الأنبياء الإلهيون وبنوا عليه أساس برامجهم التربوية وتمكنوا بقوة العقل من إنقاذ الناس من أسر التقاليد الحمقاء .
لقد ورث المشركون الجاهليون تقاليد وعادات عبادة الأوثان من أسلافهم ، فعبدوا الآلهة التي يصنعونها بأيديهم ويخضعون لها ، وعندما بعث النبي إبراهيم الخليل عليه السلام بالرسالة الإلهية ، فإنه نهض لإنقاذ الناس من الجهل وبدأ عمله لتحريرهم ، وسألهم لماذا تعبدون هذه الأصنام التي لا روح فيها ولا نفع ؟ !
(
قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) (1) .
وتحدث النبي إبراهيم الخليل عليه السلام مدة من الزمن مع الوثنيين وسعى لإيقاظ وتنوير عقولهم التي كانت تغط في سبات عميق لتحريرهم من عبودية الأوثان ، ولم تؤثر أحاديثه فيهم وبقوا في غيهم يقمحون متمسكين بجهلهم . وعندما وجد إبراهيم عليه السلام أن تبليغه الكلامي لا أثر له صمم على تحطيم الأصنام وإزالة هذه المعبودات الوهمية ، عله يستطيع بهذا الأسلوب أن يغير أفكار الناس ويدفعهم إلى التفكير والخلاص من كل هذا الجهل الذي يغرقون فيه . وذات يوم انتهز الفرصة ، وقام أثناء غياب الناس بتحطيم الأصنام وبذلك نفذ ما عزم عليه .
إبراهيم ( ع ) محطم الأصنام : لقد أغضب الناس ما قام به إبراهيم عليه السلام من تحطيم لأصنامهم غضباً شديداً وأحدث فوضى في المجتمع ، فقد هاج النساء والرجال ، والشيوخ
____________
(1) سورة الأنبياء ؛ الآيتان : 53 و 54 . ( 7 )والشباب ، والفقراء والأغنياء ، وطالب الجميع بمعاقبة خليل الرحمن عليه السلام فاستدعي إلى محكمة وطنية وبدأ التحقيق معه بحضور الناس ، ولكي يحصل النبي إبراهيم عليه السلام على ثمرة جهاده ويحطم أعلال الوهم وينقذ المجتمع من أسر التقاليد العمياء فإنه تحدث إليهم بعنف وصاح فيهم :
(
اُفً لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) (1) .
التفكير والتحرر من الجهل : لقد استخدم الأنبياء عليهم السلام في مناهجهم التربوية قوة العقل ولكي يحطموا التقاليد الخاطئة ويبينوا للناس عدم جدوى التقاليد غير المدروسة ، فقد دفعوهم إلى استخدام العقل والتفكير وبهذه الطريقة تمكنوا من تحريرهم من أسر عبادة الأوثان وأوهامها .
فيما يتعلق بالتقليد والاقتباس هناك موضوعان أساسيان يجب أن يؤخذا بعين الإعتبار :
الأول : يجب أن يعرف ( المقلد ) هدفه من العمل الذي يريد تقليده ولماذا يتابعه .
الثاني : أن يعرف الطريق الموصل إلى الهدف ، وكيف ينال مبتغاه .
العقل وهدف التقليد : في التقليد العقلاني ، يعرف هدف العمل من خلال الدراسة العقلية ، حيث يقوم ( المقلِّد ) بدراسة العمل من جميع الجهات ، ولكن للوصول الى الهدف يقوم بالاستفادة من تجارب الآخرين ويقلد اسلوبهم .
بعبارة اخرى إن الأشخاص العقلاء لا يقلدون هذا وذاك للوصول إلى الهدف ، ولا يتبعون الآخرين بصورة عمياء ، وإنما يستمعون للمسائل المختلفة
____________
(1) سورة الأنبياء ؛ الآية : 67 .