بسم الله الرحمن الرحيم
( 8 )من الناس ويرون أعمالهم في شؤون الحياة ، وما يرونه جديراً بالملاحظة يدرسونه من جميع الجوانب ، فإذا كان مضراً رفضوه ، وإذا كان مفيداً اختاروه ، وبعد ذلك يتبعون أسلوب المجربين في ذلك ، ويقلدونهم ، ويسمي القرآن الكريم هذه الفئة بالمهتدين العقلاء :
(
فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اُولئك الذين هداهم الله واُولئك هم اُولوا الألباب ) (1) .
التقليد الأعمى : إن الأشخاص البلهاء والجهال ، وكذلك الأطفال الصغار الذين لم تنضج قوة تفكيرهم ، يقعون تحت تأثير الأشخاص الأقوياء ، ولكي يتشبهوا بهم يقلدون أعمالهم تقليداً أعمى ، دون أن يميزوا الخبيث من الطيب ، ودون أن يعرفوا الهدف الأساس وما سينتج عنه ، من الواضح أن مثل هذا التقليد لا قيمة له علمياً ولا عقلياً ، وربما كان في بعض الأحيان مضراً وخطراً .
« مما لا شك فيه أن الشخص الذي يقلد الآخرين في اختيار الهدف يكون عمله بلا جدوى ، لأن البلهاء هم الذين يختارون أهدافهم عن طريق تقليد الآخرين ، ولهذا السبب فإن أعمالهم تكون هشة سرعان ما تنهار ، إنهم في الظاهر يعملون عمل الآخرين ، ولكنهم يقومون بالعمل بصورة ميكانيكية دون روح أو معنى ، إن مثل هذا التقليد يشبهونه بعمل القرد أو الببغاء » (2) .
أحياناً يقوم الأشخاص الذين لا قيمة لهم ، أو المجتمعات المتخلفة ، بتقليد الأفراد أو المجتمعات المتقدمة الكبرى ، ويتصرفون مقلدين كالأطفال والبلهاء دون دراسة أو تمحيص ويتصورون أنهم يتخلصون من الحقارة والذلة
____________
(1) سورة الزمز ؛ الآية : 18 .
(2) مقدمة على فلسفة التربية والتعليم ص 42 . ( 9 )بهذا التقليد ، وأنهم يصبحون كباراً وعظماء مثل من يقلدونه . غافلين على أن هذه التقاليد العمياء وغير المعقولة لن ترسخ ذلتهم فحسب ، بل تزيد منها ، وتضيف الحماقة وعدم النضوج الفكري إلى بقية نقاط ضعفهم .
قال علي عليه السلام : « الناس من خوف الذل تعجلوا الذل » (1) .
تقليد أم استجابة : إن التقليد ، في الحقيقة ، نوع من الرد أو الجواب من المقلِّد إلى المقلَّد فالشخص الذي يشاهد عملاً ويقع تحت تأثيره ويقلِّده ، فهو في الحقيقة يجيب عليه ، ومقابل ذلك العمل يبدي عملاً مشابهاً . فإذا كان ذلك التقليد غير مدروس ، عندها يجب القول إن جواب المقلِّد كان سطحياً ولا قيمة له ، وإنه تقليد أعمى ، وأما إذا كان مدروساً فيمكن القول إن جواب المقلَّد كان عميقاً وذا معنى ، ومثل هذا التقليد المعقول يمكنه أن يكون مصدر تعليم صحيح يؤدي إلى رقي الفرد والمجتمع .
الاستجابة الجسدية والذهنية :
« يقول جون ديوي : يجب أن نعلم أن انسجام الإنسان مع الأشياء له وجهان مختلفان ؛ الانسجام الجسدي ، والانسجام الذهني . إن تحريكاً خارجياً يمكنه أن يدفع الجسد إلى استجابة معينة ، لكنه لا يوحي للذهن أن يبدي أي استجابة ما لم يكن التحريك بصورة ذهنية ذات معنى .
إن اُذني عندما تلتقط صوتاً غريباً لم يسبق لي أن سمعته فإنه يثيرني دون إرادة أو تفكير وأما الصوت المعروف مثل صوت أو صفير إطفاء الحريق ( الذي له معنى لدي ) فإنني أهب بمجرد السماع علماً بوجود حريق ، ولإطفائه أذهب نحو الماء .
____________
(1) غرر الحكم ص 104 . ( 10 )إن الجواب الأول هو استجابة جسمية والآخر استجابة ذهنية . أسمع صوتاً هادراً ، فيحرك جسدي ، فأتأمل قليلاً ، ثم أكتشف أنه صوت ( رعد ) ، إن حركتي مقابل صوت الرعد حركة جسدية ، وتمييز صوت الرعد حركة ذهنية .
إن استجابتنا للمؤثرات الخارجية إذا كانت ذات معنى فإنها استجابة مقرونة بعمل وقصد ، وأما إذا لم تكن مقترنة بمعنى فإنها استجابة عمياء غير واعية وبعيدة عن العقل » (1) .
المنابهة والمحاكاة : بعض علماء الإجتماع يسمون التقليد الأعمى باسم ( المنابهة والمحاكاة ) وهم يقصدون أن شخصاً يقوم بعمل ، وآخر يشاهد ذلك العمل فيقع دون إرادة تحت تأثيره ، وبدون إرادة أيضاً يقلده ويقوم بذلك العمل إن مصدر هذا ( التمثيل ) في التصرف ليس محاسبة عقلية وإنما انتباه يؤدي إلى ( محاكاة ) العمل .
سلوك تلقائي : ـ يتحدث خطيب مقتدر في موضوع يهتم به الناس ، فيتحمسون ويقع بعض المستمعين تحت تأثير كلمات الخطيب فيصبحون بدون إرادة مثل الخطيب فعندما تبدو في ملامح الخطيب علامات استغراب من أمر ما ، فإنها تنعكس على ملامحهم أيضاً وعندما يتجهم وجه الخطيب ، يتجهم اُولئك أيضاً ، وكذلك عندما يغضب يغضبون ، وعندما يبتسم يبتسمون . إن هذا التماثل والإنسجام لم يكن برغبة المستمعين أنفسهم وإنما جرى ذلك بإيحاء تلقائي وبشكل ( منابهة ، ومحاكاة ) لأعمال الخطيب .
ـ يحتدم نقاش بين شخصين حول موضوع ، وأثناء الكلام تظهر عليهما حيناً الحدة ، وحيناً الهدوء ، وقد يكونان في وضع عادي أو غير عادي ، ويكون إلى جنبهما شخص ثالث يهتم بموضوع النقاش أو له مصلحة فيه ، يشاهد ما
____________
(1) مقدمة على فلسفة التربية والتعليم ص 36 . ( 11 )يجري بين الإثنين ، وبدون أن يعلم فإن ملامحه تتغير طبقاً لما يشاهده ، ويتحرك مع حركاتهما ، وينسجم معهما . إن أمثال هذه الأعمال غير المدروسة تسمى : ( المنابهة والمحاكاة ) ، وتشاهد بكثرة يومياً لدى تصرفات الناس .
التلقين والاضطرابات الاجتماعية : أحياناً تظهر حالة ( المنابهة والمحاكاة ) في محيط اجتماعي واسع وبين أوساط شعوب بطيئة النمو ، ويحدث ذلك عندما تنفعل جماهير مجتمع وبدون إرادة يقومون بسلوك متماثل ، مما يدل على أنهم وقعوا تحت تأثير التلقين ، وتحركوا دون دراسة أو تخطيط ودن الاهتمام بحسن أو سوء ذلك العمل .
ومن الممكن أن يسلك الناس طريقاً صحيحاً ومثمراً نتيجة التلقين المفيد النافع ، فيجنون بذلك ثمار وفوائد العمل ، وبالعكس فإن التلقين السيئ والمضر يسوقهم نحو طريق لا يجنون من ورائه غير الأضرار الكبيرة التي لا تعوض . على أية حال إن أعمال الناس في الحركات العامة عمياء وغير مدروسة ، وتتم على أساس ( المنابهة والمحاكاة ) وغالباً ما تأتي بنتائج ضارة .
التصرفات الجنونية : يقول علماء الاجتماع : في الانتفاضات العامة يميل العقل نحو التشويش ، وتزول قدرة التمييز ، وكأن الناس يصابون بالعمى والصمم ، فيرتكبون الأعمال الجنونية ، إن الحماس والهيجان العام كالعاصفة التي تقلع كل شيء من الجذور ، فهي تجرف كل ما يتعرض طريقها بقوة ، تحطم وتدمر ، ولا تبقي وراءها غير الأضرار .
« بناءً على نظرية ( لوبن ) فإن الفرد يفقد شخصيته الواعية في المجتمع ، ويتبع تلقينات الجماعة ، تماماً مثل الشخص الواقع تحت تأثير المغناطيس يعمل بما يشير عليه عامل الكغناطيس . يصبح شخصاً من شخصيات الغوغاء الذين هبطوا عدة درجات في سلم الحضارة . ومن الممكن أن يكون شخصاً استثنائياً في التربية
( 12 )والعقل ، ويقوم ، عندما يخلو وينفرد بنفسه ، بالتفكير في عواقب تصرفاته ، ولكنه من الممكن أن يتحول من الغوغاء إلى ( وحش ) ويقع دون تفكير تحت تأثير الغريزة فتصدر منه أعمال غير مدروسة . إن الإنسان ، بين جموع الغوغاء هذه ، يسقط إلى درجة من الوحشية بحيث يتبع بصورة عمياء أي تلقين يتعرض له ، فيقوم بأعمال مخالفة لعاداته وأفكاره بدون أي تردد . إن الشخص بين مثل هذه الجموع برأي ( لوين ) أشبه ما يكون بالرمال التي تذهب بها الريح حيثما تشاء .
ومع ذلك فإن جموع الجماهير لا تقوم دائماً بالأعمال الظالمة والخاطئة ، ولكن بما أنها تعمل بتأثير التقلين فمن الممكن أن تبدي فعاليات وأعمالاً تتصف بالخير والمحبة .
على أي حال فإن عمل المجموعة في الظروف العادية والطبيعية هو أقل درجة من عمل الفرد فكرياً ومعنوياً . ويعتقد لوبن ( أن الحمق والبله يتراكم في المجموعات وليس العقل والدراية ) . وسبب هذا الإنحطاط هو زوال القدرة والاستعداد والقوى الخلاّقة والإبتكار الشخصي ، فيتبدل الأشخاص إلى أفراد لا قيمة كبيرة لهم . ومما لا شك فيه أن العمل الذي يتم بتحريك من الغريزة والتلقين ، هو أكثر انحطاطاً من العمل الذي يتم عن طريق العقل والتفكير » (1) .
قال علي عليه السلام في صفة الغوغاء : « هم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا » (2) .
الحيوان والمنابهة والمحاكاة : لا تختص ( المنابهة والمحاكاة ) بالإنسان وحده ، بل هي موجودة لدى
____________
(1) علم الإجتماع صموئيل كينغ ص 395 .
(2) نهج البلاغة كلمة 190 . ( 13 )القردة والحيوانات الاخرى التي تعيش جماعياً بصورة غريزية ، وكالخراف وغيرها التي تعيش في قطعان ، فإنها تتحرك مع بعضها البعض بتقليد أعمى ، ويقلدون أعمال بعضهم البعض على أساس ( المنابهة والمحاكاة ) .
« يقول نقولا حداد : لو أننا وضعنا عصاً في طريق ضيق بصورة اُفقية ، وأردنا الخراف أن تجتاز ذلك الممر فإننا نشاهد أن الخروف الأول عندما يصل إلى العصا يحاول العبور فيقفز من فوق العصا وبقية الخراف تقتدي بالخروف الأول وتقفز من فوق العصا لتصل إلى الطرف الآخر .
وبعد عبور نصف عدد الخراف وإذا رفعنا العصا ، بقيت تتواثب إلى أن تعبر كلها كأن العصا لا تزال موجودة . إن قفز النصف الأول من الخراف كان بسبب الضرورة لاجتياز المانع ، ولكن النصف الثاني كرر هذا العمل نتيجة ( المنابهة والمحاكاة ) » (1) .
اختلاف المستوى الثقافي : في عالم الإنسان ، تختلف درجات ( المنابهة والمحاكاة ) باختلاف السن والمستوى الثقافي ، ويمكن مقارنة درجاتها بمعيار العقل والإرادة عند الناس فكلما كانت نسبة التعقل والإرادة ضعيفة كلما اقتربوا من عالم الحيوان ، وازدادت نسبة ( المنابهة والمحاكاة ) لديهم . وبالعكس كلما ازدادت نسبة قوة العقل والإرادة فإن نسبة ( المنابهة والمحاكاة ) تضعف .
الطفل والتقليد غير المدروس : الأطفال في السنين الاولى من حياتهم ونتيجة عدم نضوج الفكر وضعف الجسم بالنسبة للآخرين فإنهم يقعون تحت تأثير من هم حولهم ، ولهذا السبب ودون إرادة يقومون بتقليد أعمال الآخرين نتيجة ( المنابهة والمحاكاة ) ، فالطفل
____________
(1) علم الإجتماع لنقولا حداد ج 1 ص 93 . ( 14 )الذي لم ينضج عقله بعد ولم تنم إرادته فإنه يأخذ عن الآخرين أعمالهم دون دراسة ويكررها دون تفكير .
معلومات مرحلة الطفولة : إن مخ الطفل حساس كآلة التصوير ، فهو مستعد للعمل في ساعات اليقظة ، وتؤثر فيه الأعمال الطيبة والأحاديث الحسنة أو السيئة التي يسمعها ويقوم جهازه المخي تلقائياً بتصويرها ، والطريف أن هذه الصور هي التي ستحدد طريق واُسلوب حياته المستقبلية ونهجها . أي عندما يكبر الطفل ويضع أقدامه في المجتمع ، يعمل وفق ما تعلمه في طفولته ، وفي الحقيقة إن الافلام التي صورها وخزنها أيام الطفولة في ذهنه ، تظهر في شبابه ، فيجعلها برنامجاً لحياته ويعيش بين الناس طبقاً لتلك الأفكار .
والملاحظ أن تعاليم مرحلة الطفولة تكون لها جذور عميقة ، وترسخ في الذهن ولا يمكن محوها بسهولة ، ولهذا السبب فإنها تبقى حتى نهاية العمر .
عن علي عليه السلام أنه قال : « العلم في الصغر كالنقش في الحجر » (1) .
ارتكاب الذنب على مرأى من الأطفال : الأعمال القبيحة والكلام البذيء هو مضر ومذموم دائماً وفي كل مكان ، ولكنهما أمام الأطفال الصغار أسوأ وأكثر ضرراً ، لأن الأطفال يتعلمون أعمال الآخرين بدون وعي ، ويحفظونها في أذهانهم ، ويتصرفون طبقاً لها . إن الأشخاص الذين يرتكبون ذنباً أمام الأطفال ويعملون سوءاً أمام أنظارهم وأسماعهم الحساسة ويقولون السوء ، فهؤلاء في الحقيقة يرتكبون جريمتين ؛ الأولى أنهم يرتكبون الذنوب ، والثانية أنهم يصنعون إنساناً مذنباً .
إن الآباء والاُمهات الذين يهمهم حسن تربية أطفالهم ، ويرون أنفسهم مسؤولين أمام الله تبارك وتعالى ، عليهم مراقبة أعمالهم دائماً ، وأن لا ينسوا أبداً
____________
(1) بحار الأنوار ج 1 ص 69 . ( 15 )إن ( المنابهة والمحاكاة ) لدى الأطفال قوية وأن كل حسن أو يسيئ من الإعمال أمامهم أو الكلام الطيب أو الخبيث يرسخ في ذهن الطفل ، فيتعلمونه دون إرادة ويقومون به دون تفكير .
إن الاُسر التي يتصف فيها الوالدان بالعنف الخشونة واللسان البذيء وتتبع عيوب الآخرين والكذب والنفاق وغيرها من الخصال السيئة ، فإن أبناءهم ينشأون مثلهم بنفس الاخلاق السيئة ، وعندما يكبرون فإنهم بالدرجة الاولى يكونون سبباً لتعاسة الوالدين ، وبعد ذلك يصبحون بلاءً على سائر الناس . وهذا يبين مدى آثار ما تعلموه في مرحلة الطفولة حتى نهاية العمر .
الحمقى والمنابهة والمحاكاة : إن الحمقى أيضاً مثل الأطفال الصغار يقعون تحت تأثير ( المنابهة والمحاكاة ) وتقليد الآخرين بشكل لا إرادي ، فهؤلاء وبسبب قصور العقل وعجز الفكر لا يستطيعون تحليل وتفسير المسائل ومعرفة السليم من السقيم ولهذا السبب يقومون بإظهار موافقتهم أو اعتراضهم ، يصدقون ويكذبون دون تفكير ، وهذا هو دليل بين على حماقتهم وقصور أفكارهم .
اختبار العقل : عن أبي عبدالله ( الصادق ) عليه السلام قال : « إذا أردت تختبر عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه في خلال حديثك بما لا يكون فإن أنكره فهو عاقل وإن صدقه فهو أحمق » (1) .
إن الحمقى مستعدون لتقبل أعمال الآخرين بصورة عمياء ( لقلة عقلهم ) ، فهؤلاء يتعلمون أعمال الآخرين بدون حساب أو تفكير ، ويعتبرونها قدوة لهم ، ويقومون بها . وقد قال الإمام زين العابدين عليه السلام عن قصور ذهن الأحمق : « لا علمه من نفسه يغنيه ولا علم غيره ينفعه » (2) .
____________
(1 و 2) سفينة البحار ج 1 مادة ( حمق ) ص 341