بسم الله الرحمن الرحيم
الأمية والتقليد الأعمى : إن الاُمي والجاهل هم أكثر من يتعرض للقليد الأعمى ، ولهم استعداد ، نتيجة فقدانهم للمعلومات ، ( للمنابهة والمحاكاة ) . ونحن نعلم أن تحصيل العلوم ، وارتقاء مدارجها يغني العقل ويرفع مستوى الإدراك ، ويقوي قوة الإستدلال ، ويمنح الإنسان قدرة التحقيق والدراسة .
إن المجتمع المثقف تقل فيه نسبة ( المنابهة والمحاكاة ) لأن أعمال الآخرين تكون موضع دراسة وتحقيق ، وتؤخذ قدوة بوعي وإدراك ودراسة وجوهها الإيجابية والسلبية ، وعكس ذلك المجتمعات غير المثقفة والجاهلة يكثر فيها التقليد الأعمى وتقبل التلقينات الجاهلة دون تبصر ، ولو قام فرد أو أفراد بسوك وهمي باطل وله ظاهر مخادع فإن البقية من الناس في ذلك المجتمع يعقون تحت تأثير ذلك العمل فيتبعونه دون تبصر .
قال علي عليه السلام : « إنما الجاهل من استعبدته المطالب » (1) .
الإحباط النفسي : إن الإحباط النفسي أيضاً يمكن اعتباره من جملة العلل المؤدية إلى ( المنابهة والمحاكاة ) فهو يدفع الإنسان للإتباع الجاهل والتقليد الأعمى ، وقد يعتقد الأشخاص العقلاء البالغون والمثقفون أحياناً بعظمة شخص ما لدرجة أنهم يقعون تحت تأثيره فينجذبون إليه بكل وجودهم ، ويفكرون فيه ، ويدرسون أقواله ، ويدققون في أعماله ويتخذون منها بوعي وإرادة مثالاً وقدوة لأنفسهم . ويعتبرون أن قدوتهم ومحبوبهم موجود كامل ، ويتمنون أن يجعلوا أنفسهم صورة لتلك الشخصية ، ويتشبهون بها تماماً ، ولهذا فإنهم يقلدون سلوكه ، ويتبعون تصرفاته لكي يرتقوا مدارج السمو ويصلو إلى مرتبة العظمة والكمال .
____________
(1) فهرست الغرر ص 54 . ( 17 ) إلى جوار التقاليد الإرادية والمتعمِّدة ، فإن هؤلاء يتعلمون بعض أعمال من يحبون بصورة لا إرادية وعن طريق ( المنابهة والمحاكاة ) وبدون أن يعلموا يريدون أن يصبحوا كالمرآة التي تعكس حركات من يحبون ، يمشون ويجلسون ويتكلمون ، ويحركون أيديهم ، وينظرون ويضحكون مثلهم ، ونظراً لما يحملونه لهم من المشاعر ، فإنهم يقومون بقسمٍ من أعمالهم دون إرادة أو تفكير .
لسوء الحظ ، إن العقل يسدل عليه ستار في مجال المحبة الشديدة ، يفقد توهجه وتألقه ، فيصبح الإنسان أعمى وأصم ، لا يرى المساوئ ، ولا يهتم لكل ما هو قبيح ، ويرى محبوبه خالياً من أي نقص أو عيب ، ومنزها عن القبائح .
قال علي عليه السلام : « عين المحب عمية عن معايب المحبوب وأذنه صماء عن قبح مساويه » (1) .
التغرب : إن العالم الغربي منذ زمن ، ونتيجة النجاحات التي حصل عليها في حقول العلوم الطبيعية المختلفة ، قد أصبح مركزاً للتحقيقات العلمية في العالم ، وجذب أفكار الشعوب الشرقية إلى عظمته . ولكن رغم أن جميع الشعوب الشرقية وقعت تحت تأثير الغرب ، وتتبعه بصورة أو باُخرى ، إلا أنه يوجد أشخاص بين الشرقيين سحروا بالغرب لدرجة ـ وكما يقول الكتاب ـ أنهم اُصيبوا بظاهرة التغرب ، وكأنهم فقدوا قيمتهم العقلية واستقلالهم الفكري أمام الغربيين ، فهم يرون كل آمالهم تنحصر في اتباع الغربيين دون قيد أو شرط .
لا شك أن هذا النموذج من التفكير المفرط في تقليد الغرب له أضرار ، ولتنوير أذهان جميع الطبقات وخاصة الشباب لابد من توضيح في هذا المجال .
____________
(1) عرر الحكم ص 500 . ( 18 ) خلال القرنين الأخرين ، حصل علماء الغرب نتيجة مساعيهم الحثيثة على تقدم باهر في مجالات العلوم والفنون ، وإلى جانب التقدم العلمي تطورت صناعات الآلات بسرعة مذهلة ، وحلت بالتدريج محل الأدوات والأجهزة اليدوية . ونتيجة اتساع العلم والصناعة تغيرت الظروف الزمانية ، وتبدلت حياة الأمس الزراعية إلى المدنية الصناعية الحاضرة ، وتحولت الأوضاع والأحوال الاجتماعية في جميع الشؤون الحياتية للإنسان ، مما أوجب على الإنسان معرفة زمانه والعلم بمتطلباته حسب ما يمليه العقل والذكاء والفهم والفكر والإدراك والدراية الانسجام مع التطورات العلمية الحاصلة والتزود بما يلزم للاستمرار في الحياة .
عن أبي عبدالله ( الصادق ) عليه السلام قال في حكم داود عليه السلام : « على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه » (1) .
الاقتباس الإرادي : إن دول الشرق مجبرة على تعلم العلوم التجريبية لعلماء الغرب وتقليد واقتباس أساليبهم التحقيقية بوعي وإدراك ، والإستفادة من المعلومات التي يحصلون عليها في مختلف فروع العلم واستخدامها للإستمرار في الحياة وتحسين شؤون عيشهم . وعلى شعوب الشرق أن تشجع أبناءها على اكتساب العلوم المتقدمة وذلك عبر تأسيس الجامعات وإعداد الظروف اللازمة لهم لكي يتعلموا علوم العصر الحاضر ويطلعوا على الثقافة الجديدة في العالم .
قال علي عليه السلام : «حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء وإلى علمه علوم العلماء » (2) .
مواكبة التقدم : كل شعب يريد أن يواكب التقدم والتطور في عصره وأن لا يتخلف عن
____________
(1) بحار الأنوار ج 5 ص 342 .
(2) غرر الحكم ص 384 . ( 19 )المجموعات المتكاملة ، عليه أن يدرس التحولات وينسجم مع تطورات عصره ويستفيد من آثارها . وهذا الموضوع أشار برعايته النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم :
« رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن اتساع الفتوح يقضي بأن يتعلم بعض أصحابه صنعة الدبابات والمجانيق والضبور ، فأرسل إلى جرش اليمن اثنين من أصحابه يتعلمانها » (1) .
ولكي لا يصاب الشباب المثقف لدى الاستفادة من معلومات وعلوم الغربيين واتباع أساليبهم العلمية بالأفكار المنحرفة ، ولا ينساقوا وراء التفريط والإفراط وجلب التعاسة لأنفسهم وللآخرين ، لابد من توضيح نقطتين :
العلم الحديث والتقدم الصناعي : الاولى : مع أن الحصول على علوم اليوم يعتبر ضرورة لا يمكن اجتنابها في الحياة ، ولا يمكن بدونه وجود حضارة صناعية ، إلا أن ذلك لا يعني أن سعادة البشر يمكن تأمينها وضمانها عن طريق العلوم المادية ، وأن الإنسان يسعد في ظل التكنولوجيا ، وإنما بالعكس فإن اتساع العلوم الطبيعية والصناعات الميكانيكية إلى جانب الراحة التي تجلبها هذه العلوم والصناعات للإنسان ، إلا أنها تزيد من مصائبه وآلامه في الحياة أيضاً .
إن تطور المصانع زاد من القلق والإضطراب إلى جانب زيادة الأمراض النفسية والعصبية . والحياة الصناعية أدت إلى تأخير سن الزواج وبالتالي إلى انتشار الفحشاء والانحلال الخلقي ، كما أصابت العلاقات العائلية بأضرار أضعفت مكارم الأخلاق والسجايا الإنسانية . وأخيراً فإن التقدم التكنولوجي أعد الوسائل والأجهزة الحديثة لقتل الإنسان ، وإن أرقام وإحصاءات المذابح والجرائم في حالتي الحرب والسلم ، في ازدياد مطرد .
« لقد كان الإنسان في القرن التاسع عشر يأمل الكثير من
____________
(1) الإسلام والحضارة الغربية ص 103 . ( 20 )التكنولوجيا والصناعة ، وإن تياراً قوياً للأفكار والعقائد كان يقرن سعادة الإنسان بالتقدم الفني الصناعي ، ويعلن أن ماكنة البخار ، والسكك الحديدية ، وخطوط التلغراف قد سهلت شؤون الحياة ، وأنها تمهد لسعادة الإنسان .
أما في بداية القرن العشرين فقد اصطدمت هذه الآمال بالحقيقة المتحجرة وظهر أن الناس لا يملكون إحساساً بالسعادة ، وأنه يجب الإكتفاء بهذه النتيجة وهي أن التسلط والسيطرة على الطبيعة لا يشكل شرطاً للسعادة كما أنه لا يمكن تجاهل التقدم الفني الصناعي » (1) .
التقليد في إطار العقل : الثانية : إن تقليد عالم الغرب يجب أن يكون في مجال العلوم والفنون التجريبية والأساليب الصحيحة والمثمرة ، أي في إطار العقل والمصلحة ، لا أن يتبع الشرقيون بصورة عمياء الغربيين ويتعلموا أساليبهم ويعملوا وفقها دون قيد أو شرط ، لأن الكثير من الخطايا ترتكب في عالم الغرب بصورة مشروعة تحت عنوان ( الحرية الفردية ) ونتيجة لذلك فإن عدداً كبيراً من النساء والرجال يتعرضون للمساوئ الأخلاقية والشرور بفعل الغرائز والرغبات النفسية ، فينحرفون عن جادة الحق والفضيلة . ولسوء الحظ فإن الفساد والضياع يزدادان يوماً بعد آخر ويزداد معهما عدد المنحرفين والمذنبين .
التقليد العشوائي : إن سجون أوروبا وأمريكا مليئة بالقتلة والمختطفين ، واللصوص والمجرمين والجناة والخونة . ويشيع في عالم الغرب المشروبات الكحولية والمخدرات ، والعهر ، والزنا والاغتصاب والظلم والاستبداد وبقية الجرائم .
____________
(1) أفكار فرويد 121 . ( 21 )وفي بعض المدن الكبرى جعل الجناة المسلحون الأمن مفقوداً حتى إن الناس لا يجرؤون على الخروج من بيوتهم عند المساء . ولذا فمن الواضح أن التقليد غير المشروط للغربيين لا يجلب غير الفساد والضياع ، والأعمال الإجرامية والممارسات الرذيلة .
العلماء والأفكار الخرافية : يجب أن لا نغفل عن أن علماء الغرب غير جديرين بالتقليد دون قيد أو شرط ، لأن الكثير منهم ، وإن كان بعضهم اُستاذاً متخصصاً في فرعه ، ويستحق التقليد والتبعية ، إلا أنهم من حيث العقيدة والرأي يعتقدون ببعض النظريات الوهمية ويتمسكون بالأفكار الخرافية . إن اتباع أفكارهم الخيالية وغير الواقعية يعني أتباع الجهل ورفض العقل والفكر .
والطريف أن الإعتقاد بالأفكار الخرافية والنظريات غير الواقعية لا ينحصر بأساتذة اليوم ، وإنما كان يوجد بين علماء القرون الماضية من كان يعتقد بالأوهام والخرافات ، وبينوا بالقلم واللسان آراءهم هذه .
آراء أرسطو الخاطئة : « يقول راسل : كان أرسطو يعتقد أن عدد أسنان المرأة أقل من الرجل ، ورغم أنه تزوج مرتين فإنه لم يخطر بباله قط أن يتأكد من صحة رأيه هذا بمشاهدة أسنان زوجته . كما كان يعتقد أنه لو انعقدت نطفة الجنين عند هبوب رياح الشمال فإن الطفل يكون سليماً ، ومن هذه العقيدة يتبين أن زوجتي أرسطو كانتا تركضان كل ليلة نحو جهاز تعيين اتجاه الرياح قبل الذهاب إلى السرير . ويقول أرسطو أيضاً : إن عضة الكلب المسعور لا تؤدي إلى جنون الإنسان ، ولكنها تصيب الحيوانات الاخرى بالمس ، وإن لدغة الفأرة الصحراوية خاصة إذا كانت حامل ، خطرة على الخيول . ولكي ننقذ الفيلة من عدم النوم يجب دلك أكتافها