بسم الله الرحمن الرحيم
( 22 )بالملح ودهن الزيتون والماء الحار . أمثال هذه الأقوال نجدها بكثرة لدى أرسطو » (1) .
ملخص القول : إن على الشعوب الشرقية التي تريد السير في طريق الحضارة الصناعية ، وتكون قوية في ظروف حياة عالم اليوم ، أن تستفيد من علم علماء الغرب ، وتتعلم أساليبهم العلمية والعملية ، وتتبع تجاربهم وعملهم ، ولكن هذه التبعية يجب أن تكون بوعي وفي إطار العقل والمصلحة وفي حدود العلوم والفنون التقنية ، وكما قال القرآن الكريم : (
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم اُولوا الألباب ) (2) لا أن يستسلموا للغرب بشكل أعمى ويأخذوا كل ما يقولونه ويفعلونه دون دراسة ودراية وبلا حساب ، ويقلدوهم تقليداً أعمى .
الشرق المهزوم : لسوء الحظ أن شعوب الدول الشرقية ، عن إدراك أو عدم إدراك ، وقعت تحت تأثير العالم الغربي ، واستسلمت غالبيتها للسلطة العلمية والقدرة الصناعية خائفةً ، ففقد أبناؤها استقلالهم الفكري ، ونسوا شخصيتهم المعنوية ، وأخذوا ينظرون إلى القضايا المختلفة بمنظار غربي ، ويقيسون الخير والشر بالمعايير الغربية ، وينظرون باحترام إلى السلوك والتصرف الغربيين ، ويستمعون إلى أقوالهم ، ويقلدون أساليبهم .
اختبار الأفكار بالمقياس الغربي : « يقول المودودي في كتابه الإسلام والحضارة الغربية : ها هي مدارسهم ( المسلمين ) ومكاتبهم وبيوتهم وأسواقهم ومجتمعهم حتى وأجسامهم وأشخاصهم تشهد كلها بأنه قد استولت عليه حضارة الغرب وامتلكت نفوسهم علومه وآدابه وأفكاره .
فهم لا يفكرون إلا بعقول غربية ولا يبصرون إلا بأعين غربية ولا
____________
(1) تأثير العلم على المجتمع ص 20 .
(2) سورة الزمر ؛ الآية : 18 . ( 23 )يسلكون إلا الطرق التي قد مهدها لهم الغرب . وقد رسخ في نفوسهم سواء أشعروا به أم لم يشعروا أن الحق هو ما عند أهل الغرب حق والباطل ما يعدونه هم باطلاً ، إن المقياس الصحيح للحق والصدق والآدب والأخلاق الإنسانية والتهذب هو الذي قد قرره الغرب لكل ذلك . فيقيسون بهذا المقياس ما بأيديهم من العقيدة والإيمان ويختبرون ما عندهم من الأفكار والتصورات والمدنية والتهذيب والأخلاق والآداب ، فكل ما يطابق منها ذلك المقياس يطمئنون إلى صدقه ويفتخرون بمجيء أمر من اُمورهم موافقاً للمعيار الاوروبي . وأما ما لا يطابقه منها فيظنونه خطأ وباطلاً شعروا بذلك أم لم يشعروا ، ثم يأتي المتعسف منهم فيتبرأ منه ويرفضه علناً ، ويقف المقتصد منهم باخعاً نفسه عليه ، أو يعود يعالجه جذباً ومداً حتى ينطبق على المعيار الغربي بوجه من الوجوه » (1) .
بعض رجالنا وشبابنا سيطر عليهم الغرب لدرجة أن عقولهم غدت مستعمرات غربية ، وأصبحوا كالعبيد لهم دون قيد أو شرط ولكي يأخذوا الصبغة الغربية فإنهم يسعون إلى تقليد الغربيين في التصرفات والكلام والألبسة والتزيين في الشعر والوجه ، يعني في كل السكنات والحركات ، ويعتقدون أن هذا الإنسجام والتقليد الكلي علامة من علامات الثقافة والافتخار لهم .
تجاهل المعايير الأخلاقية : إن اهتمام هؤلاء معدوم ، أو بشكل أفضل ضئيل تجاه القوانين والسنن الدينية والآداب والتقاليد الوطنية والعواطف والأحاسيس العائلية ، والمقاييس الأخلاقية والاجتماعية لهم ، وهم في الغالب يتجاهلونها في العمل ، بينما نجدهم بالعكس يهتمون بتقاليد الغربيين ويميلون نحو ما يقربهم ويصبغهم بالصبغة الاوروبية .
____________
(1) الإسلام والحضارة الغربية ص 8 . ( 24 ) المتغربون واحتفالات رأس السنة الميلادية : إن هؤلاء ( المتغربين ) طبقاً لتذكرة الهوية التي يحملونها فهم مسلمون في الدين ، ولكنهم لا يعيرون الأعياد والمناسبات الإسلامية أية أهمية . هذا في الوقت الذي نجدهم يسارعون كالأوربيين للإحتفال بعيد رأس السنة الميلادية والمشاركة في الاحتفالات المقامة لهذه المناسبة ، ويرتدون الملابس المتنوعة ويظهرون بمظهر الانسان الغربي ، ويسهرون حتى الصباح ، ويحتسون المشروبات الكحولية ، ويقلدون الاوروبيين ، يغنون أغانيهم ويرقصون مثلهم على أنغام الموسيقى الصاخبة ويعاقرون الخمرة حتى الثمالة .
الشيء الملفت للنظر أن عشاق الغرب هؤلاء ، ولكي لا يتخلفوا عن قافلة الغرب ويحرموا من المشاركة في الاحتفال ، ويتلطخ شرف تقدمهم فإنهم يسارعون ويسبقون الأوربيين لحجز الموائد . وطبقاً لما تقوله الصحف إنه خلال السنين الماضية ، ونتيجة لهذا العمل ، حرم الغربيون من المشاركة في الاحتفال ، وهم أصحابه ، وذلك لعدم تمكنهم من الحصول على أماكن لهم .
الغرب والفقر الأخلاقي : إن الغرب من حيث العلم والجامعات ومراكز البحوث والأساتذة ذوي الاختصاص غني ، ولكنه من حيث مكارم الأخلاق والفضائل الإنسانية فقير ومحتاج .
ويزداد فقره في هذا المجال يوماً بعد آخر . نحن نعلم أن الغرب متقدم في العلوم الطبيعية وفروع الصناعة والتكنولوجيا وهو يسير نحو التكامل في الحقول العلمية المختلفة ، وعلماؤه يخطون خطوات جديدة ويحصلون على نجاحات باهرة في هذه الميادين ، ولكن من جانب آخر نراهم ينحدرون في الأخلاق والصفات الإنسانية نحو الفساد والضياع ، وقد أخذ مجرموه يسيرون بسرعة نحو الإنحطاط . فأرقام الجريمة وعدد المجرمين في أوروبا وأمريكا طبقاً للإحصائيات في ازدياد مطرد .
( 25 ) التوازن المعدوم بين العلم والأخلاق : إن عدم التوازن هذا في العلم والأخلاق يوضح هذه الحقيقة وهي أن الإنسان ولكي يعدل غرائزة وشهواته ويجتنب الشرور والخطيئة يحتاج إلى قوة الإيمان ، وبدونها لا يستطيع أن يحصل على السعادة أبداً . كما أن تقدم العلم المادي بدون الإيمان لا يستطيع أبداً أن يكبح جماح الغرائز ويحول بين الإنسان والخطيئة ، وإنما بالعكس فإن الغرائز المتمردة هي التي تستثمر العلم ، إذ إنها تتوسع وتصبح خطرة في ظل قوى العلم ، فتزيد من عدوانها ، إذ إنها تأتي بمصباح العلم لتسرق ما هو أثمن وأغلى .
إن مشكلة العالم الغربي لا تنحصر في الخطيئة وأعمال الجريمة ، بل إن المجتماعات الاوروبية والأمريكية مصابة بالتناقض الداخلي والاضطرابات النفسية المختلفة نتيجة التركيبة الاجتماعية الخاطئة والنقص الثقافي وسوء التربية . وعلماء النفس والاجتماع يعتبرون هذا التناقض وعدم الانسجام نوعاً من الأمراض النفسية .
الأمريكي والمرض النفسي : « كارن هورني karen horny عالمة النفس المعاصرة تصرح بأن الإنسان الأمريكي مضطر لتقبل المرض النفسي ، لأنه أينما توجه يرى نفسه في قبضة قوى التناقض . مثلاً إن المجتمع يريده أن يكون إنساناً صديقاً ومحباً من جهة ، ومن جهة اخرى يسوقه بشدة نحو التفكير والعمل الفردي ( الشخصي ) وحب الذات ، يريد منه المجتمع أن يتعاون ويشارك في المساعي الخيرة ، وفي نفس الوقت يدفعه نحو الاستغلال والاستثمار والتنافس العنيف .
يريد منه المجتمع أن يكون واقعياً ، واضح الفكر ، ولكن نتيجة الدعايات الكاذبة والمختلفة فإنه يكون عكس ذلك . فالمجتمع ونتيجة الإنتاج المتزايد ، يزيد من حاجات الإنسان وطلباته ، دون
( 26 )إن يضع الوسائل الكافية تحت تصرفه لرفع هذه الاحتياجات والمطالب .
في الوقت الحاضر نرى المجتمع الأمريكي وكالكثير من المجتمعات الغربية يفقد سلامته ومصداقيته ، فالاستثمار الفردي والمنافسة الاقتصادية وتمزق العلاقات العائلية ، جعلت الإنسان الأمريكي والاوروبي في قبضة الوحدة المرعبة ومظهرها مرض ( شيزوفرنيا ) (1) ولهذا السبب يمكن اعتبار هذه المجتمعات مريضة » (2) .
الانحطاط الأخلاقي : إن الشعوب الغربية التي تعي بصورة أو باخرى الجرائم والانحرافات وغيرها من المشكلات التي تعاني منها بلدانها ، وترى عن كثب تمرد شبابها تعترف بالنقائص التربوية والاجتماعية ، وتعلم أن فقدان القيم المعنوية والأخلاقية والاستغراق في الشهوات والرغبات والميول النفسية تسوق الإنسان نحو الانحطاط والتعاسة ، ولكن يظهر أن ( المتغربين ) لدينا ونتيجة عشقهم للغرب اُصيبوا بالعمى والصمم فلا يرون نقائص اولئك ، ولا يهتمون بمفاسدهم وانحرافاتهم ، وينمون في أفكاره الحياة الغربية ، ويريدون أن يجعلوا من أنفسهم ( غربيين ) ، ولهذا السبب فإنهم يسيرون وراء الغربيين ، ويقلدون تصرفاتهم دون قيد أو شرط ويتصورون هذه التبعية العمياء تطوراً وطريقاً للسعادة .
إن التقليد المطلق لطريقة الغربيين في بعض القضايا مخالف للقوانين الدينية ، ورفض للأداب والسنن الاجتماعية وعدم اهتمام بالمشاعر والأحاسيس العامة ، والعواطف العائلية ، وهذا ما يؤدي إلى صراع في عقائد وآراء الشيوخ
____________
(1) schizophrenia ـ الفصام الشخصي ، انشطار الشخصية .
( المترجم )
(2) مبادئ علم الإجتماع ص 209 .
( 27 )والشباب وظهور اختلافات ونزعات بينهم :
صراع الآداب القديمة والحديثة : « إن أكبر خطر يهدد المجتمع في مرحلة التغيرات الاجتماعية هو الصراع الشديد بين دعاة الحفاظ على الآداب والتقاليد القديمة ، وأتباع المبادئ الاجتماعية الجديدة .
وطالما أن المجتمع لم يتغير ولم يشهد تحولاً كبيراً ، فإن الصراع بين هذه المبادئ المختلفة لن يظهر ، ويواصل الجميع حياتهم جنباً إلى جنب . ولكن بمجرد ظهور تحول مثل الحرب ، والاتصال بالمجتمعات الاخرى ، وأفكار ورغبات الطبقات الاخرى ، فإن الآداب والتقاليد يصيبها الاضطراب ، وتنهار فجأة السدود الحديدية التي تفصل بين العادات ، ويمتزج السيل العظيم لتلك المبادئ التي كانت منفصلة حتى الأمس .
وفي عالم اليوم تلعب سرعة المواصلات ووسائل الإعلام دوراً مدهشاً في مصير الشعوب ، التي لم يشهد التاريخ البشري مثل هذا الاختلاط والاتصال بينها ، كما أنه لم يكن موجوداً مثل هذا الحجم الهائل من الاختلاف والتناقض بين المجتمعات المختلفة كما هو اليوم » (1)
المخدرات وشباب الغرب : الكثير من شباب أوروبا وأمريكا ، وبعضهم من الذين اجتازوا مراحل عالية من الدراسة ، أصابهم العجز والإنهاك نتيجة إدمانهم للمواد المخدرة ، فففقدوا جراء ذلك قوة ونشاط الشباب ، وكما تقول صحف الغرب فإن هذه الفئة السيئة الحظ والتعسة تعيش أصعب الظروف وأشدها ، وتواصل حياتها بذل وعار .
____________
(1) الأخلاق والشخصية ص 83 .